Take a fresh look at your lifestyle.

عبد الرحمن الداخل.. صقر قريش من رحم الفشل يولد النجاح

55

من رحم الفشل يولد النجاح صقر قريش عبد الرحمن الداخل..

  • هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملـك بـن مـروان، سـيـد مـن سـادات قريش، والدته بربرية كانت من سبي بربر، مات أبوه وهو صغير فكفله جده وأجرى عليه وعلى أخوته الأرزاق، اضطربت أحوال بني أميـة بعـد هـشـام بـن عبـد الملـك وتـداعت دولتهم وقتل بعضهم بعضا، لم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى رفعت الدولة العباسية راياتها السود على البلاد حتى كانت نهاية دولة بني أمية وأصبح عبـد الـرحمن مطلوبا لتقطع رأسه وعمره في هذا الوقت 19 عاما.
  • استخفى عن عيون العباسيين في قرية صغيرة على نهر الفرات ثـم أراد أن يرحـل بعيدا فكلف شخصا من معارفه أن يبتاع له دابة ولكن الغدر لحق به وعلمـت بـه عيـون العباسيين فطاردته خيولهم فلم يجد هو وأخوه الصغير عند ذلك سوى النزول إلى الفرات والسباحة فيه وعبوره، أما أخوه فلم يقـو علـى العبـور وعـاد إلى الشاطئ فتلقفـه جنـد العباسيين وضربوا عنقه على مشهد من عيني عبد الرحمن، فهام على وجهـه هـاربـا يـريـد المغرب ومنها للأندلس.
  • خمس سنوات هاربا ملاحقا من قبل الوالي الموالي للعباسيين في إفريقيا.
  • جلس يفكر ماذا أفعل؟ هل أختفي طوال العمر، أم أظهر؟

إن ظهر في المكان الموجود به في الشمال الأفريقي قتله والي العباسيين وإن ظهر في بلاد المشرق في الشام قتله العباسيون.

أيظل هكذا وبدون حراك والأمويون يقتلون إن عـرف مكانهم أم يعيـد للأمـويين مجدهم من جديد؟

ظهر في فكره خاطر وهو أن يذهب للأندلس ولكن لماذا الأندلس؟

* لأنها أبعد رقعة في بلاد المسلمين.
* لأن بينها وبين العباسيين بحر وهو مضيق جبل طارق ويصعب على العباسيين الوصول إليها إلا بعد فترة من الزمن.
* لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدا، ثورات وانقسامات، والنـاس تـكـره والـي العباسيين الذي يطارده.

وبدأ يخطط لدخول الأندلس فقام بخطوات متتابعة بدأت بـ:

  • إرسال مولاه «بدر» لدراسة الموقف ومعرفـة القـوى المؤثرة في الحكـم في هـذه البلاد.
  • مراسلة كل محبي الدولة الأموية بما علموه عنهم من سخاء وكرم وحسن معاملة للناس والسياسة والجهاد في سبيل الله.
  • مراسلة أعداء والي العباسيين من البربر فهم يرغبون في التخلص من حكم هـذا الوالي الذي يعاملهم بعنصرية.
  • مراسلة كل الأمويين في الأرض في مصر والسودان والحجاز يعرض عليهم فكرته وعزمه على الدخول في بلاد الأندلس، وبدأ يعرض ويجمع الأفكار لينفـذ فكـرة واحدة وعجيبة وهي أن يدخل الأندلس بمفرده وحيدا.

وتحقق بالفعل، بدأ في تجميع الأعـوان، وآتاه رسـول مـن عنـد مـولاه «بدر» مـن الأندلس ليخبره بأن الوضع قد تجهز لاستقباله في بلاد الأندلس ليسافر في السفينة وحيدا إلى بلاد الأندلس وليستقبله مولاه ويتجها إلى قرطبة، وبـدأ في تجميع الناس من حولـه والمحبين للدولة الأموية مثل البربر و الأمويين الذين كانوا في بقاع الأرض المختلفة ومع ذلك لم يكن العدد كافيا ليغير الأوضاع ولكـن استمر في السعي حتى حانت اللحظـة وأصبح لزاما عليه أن يحارب والي العباسيين.

ولنا هنا موقف فعله صقر قريش… وصل إليه أن بعضا مـن جيشـه قـالوا: إن هـذا الرجل وهو عبد الرحمن غريب على البلاد، ثم إنه يملك فرس أشهب وفرس عظيم وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للأعداء، فماذا نفعل؟

انظر إلى ذكائه وعمره نحو ٢٥ عاما عندئذ، ذهب بنفسه إلى قائد هؤلاء النفـر وقـال له: «إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني مـن الرمـي فـإن أردت أن تأخـذه وتعطيني بغلتك فعلت» فأعطاه الجواد السريع وأخذ البغلة فقال من حوله: هذا مسلك رجـل لا يريد الهرب بل يريد البقاء حتى الموت في ساحة المعركة.

ودارت المعركة وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية وعندما فر أعداؤه وكانت طبيعـة هذه الأيام تتبع الفارين لسحقهم وقتلهم ولكن عبد الرحمن وقف لمن معـه ومنعهم مـن تتبع الجيش الفار وهو يقول قولاً عظيما: «لا تتبعـوهـم اتركوهم، لا تستأصلوا شـافة أعداء ترجون صداقتهم واستبقوهم لأشد عداوة منهم» فهو في هذه المعركة يفكر لما هو أبعد يفكر في المعركة الرئيسية مع نصارى أوربا.

هو رجل ليس في قلبه حقد ولا غل لمن كان يريد أن يقتله منذ لحظات.

بعد هذه الموقعة والسيطرة على منطقة قرطبة وعلى الجنوب الأندلسي كله لقب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل الأندلس من الأمويين حاكما وبويع بالخلافة.

وبدأ :

تنظيم الأمور من الداخل حيث كانت هناك ثورات كثيرة وفي أماكن متعددة فأخذ – في صبر شديد ومراوغة أشد- يستميل القلوب ويحارب الأخرى التي لا تلـيـن حـوالي ٣٤ سنة متصلة حتى تركها في أقوى حالة.

* حافظ على دولته الوليدة بـ:

  • القضاء على العصبيات القبلية.
  • قمع محاولات الصليبيين من الفرنسيين والأسبان للهجوم على الأندلس.
  • أسس مسجد قرطبة الذي مايزال موجودا حتى الآن ولكن تم تحويله إلى كنيسة.
  • اهتم بإنشاء جيش قوي وصل تعداده إلى مائة ألف فارس غير المشاة.
  • أنشأ أسطولاً بحريا قويا مع إنشاء أكثر من ميناء كان منها ميناء طرطوشة، المريـة، إشبيلية، برشلونة.
  • كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفقه بكامله على الجيش، والثاني لأمور الدولة العامة من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث كان يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
  • أعطى العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على نشر العلـم وتـوقير العلماء واهتم بالقضاء والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  • اهتم بالجوانب الحضارية: فاعتنى بالإنشاء والتعمير وتشييد الحصـون والقلاع والقناطر وربط أول الأندلس بآخرها.
  • أنشأ أول دار لصك النقود الإسلامية في الأندلس.
  • أنشأ الرصافة وهي من أكبر الحدائق في الإسلام على غرار الرصافة التي كانت بالشام وأسسها جده هشام بن عبد الملك.
  • كان منقوشا على خاتمه: عبد الرحمن بقضاء الله راض وبالله يثق وبه يعتصم.

ولم يسكت العباسيون، بل أرسلوا أحد رجالهم كي يقتل عبد الرحمن ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية ولم يفلح الرجل ولا جيشه بل قتله وانتصر عليه عبـد الـرحمن حتى يئس أبو جعفر المنصور وقال: «ما لنا من هذا الفتى مطمح- يقصد عبد الرحمن بـن معاوية- الحمد الله الذي جعل بيننا وبينه البحر» ولم تفكر الدولة العباسية أبدا في استعادة بلاد الأندلس حتى إنه هو الذي أطلق عليه لقب «صقر قريش». يذكر المؤرخون أن أبـا جعفر المنصور قال لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش، من هو؟

قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكن الزلازل، وحسـم الأدواء، وأبـاد الأعداء.

قال: ما صنعتم شيئا، قالوا: فمعاوية، قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بـن مـروان، قال: ولا هذا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟

قال: عبد الرحمن بن معاوية الذي عبر البحر وقطع القفر ودخل بلدا أعجميا مفردا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسـن تـدبيره وشدة شكيمته.

وفي موقف آخر قال عنه المنصور: «إن ذلك الفتى لهو الفتى كـل الفتى، لا يكـذب مادحه، ممن هذا القول؟! من ألد أعداء عبد الرحمن الداخل».

يقول بن حيان القرطبي شيخ المؤرخين الأندلسيين عنه: «كان الإمام عبد الرحمن راجح العقل، راسخ الحلم واسع العلم كثير الحزم نافذ العـزم، لم ترفـع لـه رايـة علـى عـدو قط إلا هزمه، ولا بلدا إلا فتحه، شجاعا مقداما شديد الحـذر قليـل الطمأنينة لا يخلد إلى راحـة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمر إلى غيره كثير الكرم عظيم السياسية يلبس البياض ويعـتـم بـه ويؤثره، يعود المرضى ويشهد الجنائز ويصلي بالناس في الجمع والأعياد ويخطب بنفسه، جنـد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب وبلغت جنوده مائة ألف فارس.

وقال عنه ابن الأثير: «كان حازما سريع النهضة في طلب الخارجين عليـه لا يخلـد إلى راحة ولا يكل الأمور إلى غيره ولا ينفرد برأي، شجاعا مقداما شـديـد الحـذر، سـخيًا لينا، شاعرا، عالما، يقاس بالمنصور في حزمه وشدته وضبطه الملك.

نعم بهذه الصفات تحول من طريد يائس إلى ملك عظيم الشأن.

ولكن أين الحنين للوطن والأهل؟

لم يتركه عبد الرحمن الداخل أبـدا: فعندما رأى يومـا نخلـة فشـقه الحنين والشـوق إلى مسقط رأسه ومكان نشأته فأنشد يقول:

تبـدت لنـا وسـط الرصـافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلـد النخـل
فقلـت شـبيهي بالتغرب والنـوى وطول اكتئابي عـن بـني وعـن أهـلـي
نشـأت بـارض أنـت فيهـا غـربـة فمثلك في الإقصاء والمنتـاى مثلـي

وليس هذا وحسب وإنما كان يرسل الرسل إلى الشام ليطمئن على أخبار من بقي من أهله وليدعوهم للمجيء إلى الأندلس، وفي حنينه إلى الشام وأهله هناك عندما رأى قافلة متجهة إلى الحج قال:

أيهـا الركـب المــيمم أرضـي أقـرا مـن بعضـي السـلام لبعضـي
إن جسمي كـمـا علمـت بـأرض وفــــــــؤادي ومالكيــه بـــارض
قـدر الـــــــين بيننـا فافترقنـا وطـوى الـبـين عـن جـفـوني غمضـي
قد قضـى الله بـالفراق علينـا فعسـى باجتماعنـا سـوف يقضـي كمـا

حتى أنه سعى لبناء مدينة تشبه الرصافة الموجودة في بلاد الشام وقال أبيات الشعر عن النخل عندما قام البناءون بزراعة شجرة نخل في تلك المدينة وتذكر نخل بادية الشام.

ثار ثائر في الأندلس عليـه فلمـا ظـفـر بـه وأسـره حملـه عـلـى بـغـل مـكـبلاً مقيـدا بالسلاسل بينما كان هو على فرس.

فقال عبد الرحمن الداخل: يا بغل، ما تحمل من الشقاق والنفاق؟
فقال الثائر: أيها الفرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة؟
فقال عبد الرحمن الداخل: والله لا تذوق موتا على يدي أبدا.
من هذا؟ إنه رجل هرب إلى فلسطين إلى مصر إلى المغرب، خمس سنوات من التجول والتخفي حتى نجح وحقق المستحيل.

حول الفشل لنجاح، والمحنة إلى منحة، والبلية إلى عطية.

حول الظروف الصعبة وضعف الإمكانيات وقلة الموارد والمطاردة الشرسة من أقوى دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان وهو وحيد ليس معه إلا توفيق ربـه ثـم عـزم لا يلين وإرادة حديدية لا تعرف الكلل واليأس إلى دولة وخلافة جديدة.

إن النجاح يحتاج إلى أناس عقلاء أذكياء لهم همـم عاليـة لا يرضيهم الواقع المعـوج ولا يركنون إلى الحال الرديء نفوسهم متعلقة بالسماء وهممهم كالجبال الشامخات يسيرون وفـق خطط مرسومة في حركة دائبة لا يكل ولا يمل حتى يصل إلى مراده ويحقق هدفه.

وهكذا كان صقر قريش.
كان بحق الصقر المحلق.
لذا ليس المهم أن تكون في النور لترى.
بل أن يكون النور فيما تراه.

Comments are closed.